ساقٌ على ساقٍ، ومَبسم بدون سيجارة

أحمد العلوي- الدوحة 2022

يقبعُ  في هذا المكان القصي من الوجود، ثلاثة أزواج وأربعة غيرهم؛ أنا وذلك الأسمر الغريب الذي يلبس نظارته السوداء كي يُنسى، وشابة لا تنفك تضحك وهي تعبث بجهازها المحمول، وامرأة تُعلِّق  كواكبَ مجهولٍ حول عُنقها، وحول المقهى البعيد…

ساقٌ على ساقٍ 

ووجهةٌ إلى زمنٍ

يُعتِّقُ فيه نبيذَه

تحت راياتِ الغبار

تجلس وحيدةً مثلي قليلاً، كثيرًا  أجلسُ وحيدًا مثلها، تضع ساقًا على ساقٍ كاشفةً عن كل خطايا مُنمنماتِ عمرٍ ينجرف نحو الهذيان، أفي الخمسين؟ أو أكثر؟ لم أكتشفه من بقع النمش الذي يزحف إلى عناقها، وينتشر في فضاء اليد اليمنى أكثر، ترفع يدها الأخرى؛ اليسرى طبعًا، تحمل مِبسمًا أسود لا تسكنه سيجارةٌ تحترق، تضعه وتطلب قنينة ماء…فنجان قهوة عصري…منفضة سجائر؛ ترنو بعدها إلى الأفق أمامنا، وتُنزل يدَ النمشِ على ركبتها اليسرى، وتنقر كما ينقر المهزوم على طاولات المنتصرين منتظرًا مقصلتَه.

كم عامًا نحن هنا؟ أسألها، ولا تجيب، وأنا الوحيد الذي يسمع رجع صدى الكلمات، عائدة من جبالها  الجليدية، تخرج بيد النمش الخجول من مكانٍ ما دخل متاهات حقيبتها، قداحة تتركها تتناغم مع المبسم الذي يستكبر كلما ظلَّ عصيًّا على النسيان.

“كم مضى عليكِ هنا، أمام البحر والعزلة؟

تحترقين انتظارًا، 

وأحترق غَيرةً كُلما شرعتِ في الصلاة”.

كم مضى عليكِ في هذا الهامش الأزلي، ترممين الأساطير المنكسرة على صخور الخيبة والانحلال من حضارة الاكتمال؟ لا أسمع منكِ إلا زفرة الغريقةِ الأخيرة، قبل أن يعصف النادل بصلاتك، قبل أن يبتلع الفنجان قطعة السكر، ويغور قلبك الصامت، لا أعرفكِ، ولكنهُ المكان يؤسس وجودنا المشترك، وقربنا المفترض. سيدةٌ تعتنق كل الشرائع القديمة، ورجلٌ يعتنق دين الكآبة.

تلتقط المبسم، وتضعه بين عَلَمين، بعد أن ينتشي النادل منهما، ويضع المحال على طاولتك، تقفز من فوهة الحقيبة ملايين الخرافات، ووحدة تستقر في زحام النمش، تُداعبها أصابعك، ولا تستقر من هذا السفر.

أصرخ للمرة الألف عليكِ: أمَا آن للزمان أن يحترق؟

“هي… لا تسمع سأم الموجة في بحر الشمال، لا تقفز معها إلى صواري العدم”.

كأنها تقتفي أثر ماءِ الوقت على سواحل السؤال، ماضيةٌ عبر وَحلِ الأيام إلى آخر الوهم، يقتلها الإبهام الذاوي بين يديها، التي تهتز وهي تلعقُ الكوب أمام فصيل الإعدام، تشرب قليلًا وتلتفت إلى المقاعد الخالية، تشرب وتهز عوالم ومدن تغوص في بهاء الغياب، تمتصها هاتان العينان المهزومتان مثل خرافة عفا عنها الزمانُ، لتعود مع الكوب على الطاولة؛ أصل البداية واشتباك الألوان.

تعانق المبسم سيجارةٌ، وأسئلة عن حكايةٍ تقف على باب البداية، دون أن تبدأ يومًا، تبحثُ عن نارها أو بِضع شرارةٍ، تتبع سيرة ذاتيةً لامرأة تُشعل البحار والأمكنة حين لا تُشعل عود ثقاب لتوقد بها شهوات بحَّارةٍ.

شقَّ السماء نَوْرسٌ، اعتادَ على سلب نشوة لحظات النهاية، تقوم امرأةُ المبسم، تلملم كل ما سقط من أطراف الحكاية، تستنشق عبء السنين، تعبئُ صدرها الغارق بماء البحر، ترفع اليدين وتنظر فيهما إلى كل الموانئ، تبتسم بخفة قلبِ طفلٍ تجنَّب زحام المصائر، وتسألني إن كنت أشعل خلفها ذهول ألوف أعقاب السجائر؟

أصمتُ؛  لأسمع اقتفاء الدرب لخطواتها المائلة على دفتر الكتابة، وأرفع أمام هذه العزلة عريضة اعتراضي، قبل أن يبتلعها المنعطف وأصرخ:

“عودي! فأنا لا أملك عود ثقاب يقيني برد امرأة لا تشعل سيجارة”.

الدوحة 2022.

رد واحد على “ساقٌ على ساقٍ، ومَبسم بدون سيجارة”

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s


%d مدونون معجبون بهذه: