الدوحة 2022
سوّى أوتار عودِه، وسط زحام الكَون، وضع فيه قلبَه، داعبَ الوردةَ المنقوشة على حافَّتِه، الْتقطَ بعينه الضحكات حوله، وأغمضها على وجعٍ سَاكِنٍ جوفَه، أمسك ريشته وبدأ يعزف بها على جِراحه؛ وترًا وترًا، بين الذين لا يعنيهم إلا سير ليلتهم نحو هاوية اللَّذة.
رفع عينه إلى كأسٍ مُترعة بخوفه، ترفَّع نخبًا للذين ضاعت خُطاهم عن ليلة الألف ليلة، حدَّق فيهِ فرأى سيرة عجزِه، على شاطئ البحر الذي ابتلع لحن حظِّه، ترنَّم بالعقود على أعناق النساء الجالساتِ، راح يندب حاله الذي لمع زمنًا، واكفهر خلف نَشوة مخادعة أطاحت خُطاهُ؛ سكبتْ على عُودهِ مرارة غِوايتها.
“كان عاشقا فتنَهُ العودُ حين كان يريد ربحَ زمنه”
عزف راميًا قلبه الثقيل على وتره، انساب إلى الكؤوس، إلى الثمالة، إلى العيون خلف غَيِّها وطَعْمِ اللذة، علَّق الوجود بين أوتاره، وغاب يرتقي سلَّم وجعِه، محاولًا إبعادَ طيشِ ليلة أراق فيها على عوده خمرًا، وضيَّع ما تلاها من عمره.
عزف المُمكنَ والمُحال بين حوائط العدم، دفع قربان خطأه، وانزاحت أحلامُ صِباه؛ قطرةً قطرة، غَمَرَ خيالَه باللَّهفة البائدة، تصَّور أنهُ في أعالي القِمة، ليسقط، ليتدحرج مع كأسه؛ حيثُ سيزيف يُعانق صخرته.
شدَّ على لَحنِه، ونظر إلى نوتتَه المسكونة بشظايا جارحة، اختلس بنظره إلى أطياف الجالسين على الموائد الآثمة، ورفَّ أمامه طيفُها الذي أرداه قتيلًا في ليلتها الغابرة، سمَّاها نهرًا خالدًا، ومضى يحرثُ السماءَ خلفه…
مزج وترهُ بعطرها
طاف بآهاتها لحنُه
خان عهدَ عُودِه
سكبَ عليه خمرًا
أشعل شهوتَه
كزَّ على أسنانه؛ لعلَّه يعود بالأيام إلى قِمَّته الخالية من دُخان العابرين، لا يسكنه سِوى شرعُ العازفين ونقاء أيامهم، قريبًا من صوامع الزُّهاد وأضرحة المَنسيِّين، يرتفع مع النسائم، ويهبط مع نَجمة تزور كونَه، يعزف لها حنينَه الذي لا يكتمل وقعُ إيقاعِه؛ لأنه يتَّحد مع نسقها العابر وزَهوِها الأخير.
هَتفَتْ من آخر الأزقَّةِ الباقية في وجدانه سيدةٌ تُعرِّي ما بقيَ من آلامه:
“كان لك، لكنك خنته”.
زفر عودُه مُتشنج الوَتر، كأنه يُقسم على حجر سيزيف، الذي تدحرج فوق جسده، بأنه لم يخن شيخ الطريقة ولا المتصوف المقتول، سَكَرَ بحبِّه، وتجرَّع علْقَم موته، وبكى على آخر اللُّحون المكتوبة تحت عُري السماء، عاد مُمسكًا حبال اللحن، وأغمض عينيه على جمرةٍ يُوقدها عزفُه.
أكمل الطريق إلى آخر الليلة منكسرًا، عازفًا مآسي ذاته الملوثة بخطيئة العصيان، يرثي روحه المسلوبة من لذَّةٍ تخيَّلها بين يديه، كانت عابرة على لحظِ عينيه، خالها قمرًا وشمسَه، باح لها بسرِّه المكنون في عزفِه، فسكبتْ غِوايتها، وعصفتْ بعالمه كلِّه.
وسط صمت الجموع رقدَ لفيفُ أمانيه بأياديهم، لكنَّهم كانوا ينتظرون جفاف ثَملة كؤوسهم؛ لينسوا الذي عزفَ مقطوعته وانكسر عائدًا إلى كأسِه…
أحمد العلوي – الدوحة 2022
ردان على “عزف مقطوعته وانكسر…”
الله ثم الله
إبدااااع وربي
اسمح لي بتسجيلها بإلقائي 🥰
إعجابLiked by 1 person
لكِ ذلك ولا تنسي تبعثي لي التسجيل
إعجابإعجاب