أحمد محمد العلوي 2022
صعدتَ أنت سلالم البقاء، وغدوتَ أسطورة، وبقي بعدك الذهول يجوب عالمنا، حتى شاخت قلوبنا منذ بدأتَ ترحالك الطويل بين جبال الرمال، بقيت صورتك صاعدةً، وأنت تُيمم شطر الوجع، تقود رفيقة أحزانك وشطط قلبك، تتبعُكَ عيونُنا، التي تنزُّ نفطًا، بقدر ما نفعنا أعمانا.
“خائن من ينقض عهد الأرض”
كانوا كُثُرًا، وكان وحده يقاوم الآلة والزمن، بين تلال الرمال، رفضَ ما لا يُقاومه إلا الطائش عن جنون الحياة، كانت واحته حكايته، ومملكته العائمة بين كثبان تُناهز البحار، وغايته حين تتوه خُطاه، وتخيب أحلامه العديدة، يشرب مما تجود به عين ماءها، حين يتملص من ظلالها متوغلًا في ظلامات الصحاري.
شقَّ الأغرابُ ستر الليل بزيوتهم المشتعلة، وأجَّجوا نهاراها الحارَّ بأصواتهم؛ بحثًا عن موتٍ مؤجل، وذهبًا أسود، لطَّخ نقاء القلب الذي كان يحمله، نبشوا الأرض المختومة بطلاسم الغيب، كأنهم ذئاب تنهش لحمَهُ، ثقبوا روح “متعب الهذال”، ألهبوا القيض حوله، لينصبَّ اللهيب داخلَهُ، تجاسروا على كل ما يملكه، على القليل مما يسكنه؛ واحته.
“لم يختبر من قبلُ زحامَ هاجسِ الواحة، حين ينبش الغريب حرمتها”
ضجَّ به الأفق، ورحل مودعًا في ظلام الليل ما سُلب منه، يمَّمَ شطر التِّيهِ، ماسكًا بخطام ناقته، آخر الأوفياء في صحاري الوجود، مضى حيث النسيان لا يستجيب لنجم رفض نهايته، مضى مُثقلًا بالرفض والسخط، يطبع بخطاها الدهر إلى اليوم.
لم تنسَ بعدُ
كلَّ أثرٍ مجهولٍ
على رمال الجزيرة
أنت…
في كل ظلٍّ يمتد أنت
لا النسيان يعتق صورتك
مع كل جرح ينزف نفطًا
شحن الليل صورتك بين أشجار السدر المتشبث بالجفاف، وفي منابع الماء الباقية، خلف مسير النوق وقطعان الماعز الفارة من آلة الأغراب، علا صوتُ غضبك من ثقوب نايات الرعاة، وشجن حزنك طغى على ربابة، تنتفض مغبونة حين تسمع مآثر الحكماء، زاحَمَتهم، وتسلَّلت في وضح النهار إلى أسوار معسكراتهم الموبوءة بإثم هتك صفاء الصحراء.
ترايْتَ لهم، وأنت تقبض على خطامِ ناقتك، وتُشهر لعنتك ضدَّ عارهم ونفطهم، ومجالسهم العامرة بالأوهام.
تجاسرت يا مُتعَب؛ ظهرتَ وسط جموع المنقِّبِين من خلف تلال الرمل، تُنازِعُ أحلامَهم، وتسأل عن سلبهم الواحات المتناثرة في مدن صحاري الملحِ الشاسعة، عن هزِّهم عرش الغَيبِ الساكن تحت الرمال الصفراء، حتى في صحوهم صرختَ رافضًا تدنيسَ ربعِ الأجدادِ، كانوا يسمعونك، ونسمع صوتك إلى اليوم، يتردد من كلِّ فجٍّ عميق، يهدر كلَّما تفجَّر جرحٌ بدمِ الأرض السوداء.
مُتْعَبٌ أيها المذكورُ بين مضارب القوم، وفي نخوة العربيِّ القديم، كلُّ أحلامنا ذهبتْ مع سرابك المتراقص وناقتك، رفضتَ أنت تلطيخ ثوبك العربي بالنفط، ونحن الذين غرقنا في بحارِه، حتى تبدَّلنا، ونسينا أننا رمية السهم الرابحة، لم نُحسن فهمَ غَيْرتك، لم نُحكم قبضاتنا على إبلنا وجيادنا، انْفَلَتَتْ حين تعاظمت الطرق على وجه الأرض حتى نزفت، وما تبقى شيء من عروبتنا إلا هشيم نار تُكابر الانطفاء.
صعدتَ أنت سلالم البقاء، وغدوتَ أسطورة، وبقي بعدك الذهول يجوب عالمنا، حتى شاخت قلوبنا منذ بدأتَ ترحالك الطويل بين جبال الرمال، بقيت صورتك صاعدةً، وأنت تُيمم شطر الوجع، تقود رفيقة أحزانك وشطط قلبك، تتبعُكَ عيونُنا، التي تنزُّ نفطًا، بقدر ما نفعنا أعمانا.
ارتفعَ صياحُ الآلةِ، وخرج المارد من باطن الأرض، غيَّرَنا وتقدَّمَ بنا، لكنَّنا لم نروضه، إنما استهلكتنا غوايتُه، وما أصبحنا أقوى، فقد منحنا الوفرة والأنانية، وهمَّش البقيةَ.
عبرتُ يومًا من مدن ملح الروائي الراحل عبد الرحمن منيف، ولا زلتُ أبحث عن أوجاع متعب الهذال، الذي تسيَّدَ “التيهَ” حتى اليوم، وأصبح خالدًا، حين أحاول أن أجد ملامح وجهي في بحيرة من نفط أسود.
أحمد العلوي
الدوحة أواخر 2022.
*شخصية من الجزء الاول “التيه” في خماسية مدن الملح.


رد واحد على “صحراء متعب الهذال*”
هذا ال”احمد العلوي” الرائع يكتب ببراعة وبإدهاش منقطع النظر. لمسة حروفه الحادة توخز بجمالية لاذعة، يراوغ الفعل ويفعل بقدرة لا تضاهى. هذا الولد المشاغب النزق يلقي في وجوهنا كلاما مزوقا مرصعا باللؤلؤ والمرجان، يداعب لعبة الكتابة مهادنا هادئا في البداية، لكنه فجأة يعود إلى عادته السيئة الجميلة ليغمر القارىء بفيض غامر من حلو الكلام ورحيقه المذوب.
نص ماتع وبديع العزيز الكاتب المرموق احمد العلوي. دمت رائعا كما ينبغي لك أن تكون أيها الرائع.
إعجابإعجاب