يوم من أسفار حارس الظلال

“لك أياَ حارس البحر والمدن، لك أياَ أندلسيّ الأشواق والحنين حين ترحل، لك ما لك من دروب أسافرك العديدة، ولنا اللحظة التي ترتفع كموجة بقربك”

ظهر الحارس في يوم عابر شاسع التكوين، كنتُ لا أسمع إلا صوتي الذي يتمسك بألاعيب كتاب ” السقوط من الزمن*”، حتى اللحظة التي انتشلتني فيها “سيدة المقام*” مهاتفةً إياي لتدعوني إلى رؤية حارس الظلال الآتي من خلف أسوار الباستيل مغامراً بكل حظوظه حين يكتب!

مضيتُ إليه حاملاً إجابة سؤال طرحة في لقائنا الأخير في الشارقة، لم يتسع حينها فضاء معرض الكتاب للإجابة عليه ” كيف حالكم؟ هل فقدتم أحدا خلال الجائحة؟ ” بالطبع فقدنا وتألمنا كلٌ بما قاساه، هذا ظلال من ظلالك يحرس أوجاعنا مثلما يمتد فيها وجعك، تسكننا الأوجاع منذ بداية الخليقة والصرخة التي عمدتنا بالدماء، لا نسير إلا بالوجع ولا نكون إلا بعده! كما الكولونيل في حروبه الخاسرة، يحمل بندقيته ووجعه صوب البحر ليصطاد النوارس، لا ليثبت قدرته بل ليؤكد لنفسه أن هناك حروبا رابحة ووجعا يصعد إلى السماءِ رابحا أبديته.

التقينا أيها الحارس بمعية صديقتنا وسط بقايا حرائقنا الغير معلنة، أنت بكل ما لحق بك من خراب في أزمنتك الأولى، وهي والوقت الذي تحارب فيه شظايا سمائها الصاخبة، أنا بما خربته يدي يوما. بمعيتها أيها الحارس الفار من أزمنة الموت، نستل الوقت من فوهات بنادق الذين لا يريدون لظلك أن يمتد، لكنه غدا أكبر أكبر أكبر… لأننا نحبك ونلوذ بكتاباتك حين تقرر الدنيا أن تغرز خناجرها في خواصرخيالاتنا، نبتعد صوب البحر، نحاول الفرار لنربح اشتهاء نزقٍ كبّل هذه الحياة.

لك أيا حارس البحر والمدن، لك أيا أندلسيّ الأشواق والحنين حين ترحل، لك ما لك من دروب أسافرك العديدة، ولنا اللحظة التي ترتفع كموجة بقربك، ننصت لكلماتك التي ترتد في دواخلنا، لتعبث قليلا وسط زحام أفكارنا، كأنك ستثير صمتنا العالق في الجو مثل الغبار، تتحدث وتسرق منا حق الحديث يا صاحب المقام العالي، لأنك الراوي الذي لا نريد له السكوت، تقول ” بين الحكاية والرغبة مسافة صغيرة” وبيننا وبينك؛ قلبك الذي خانك يوما وخاننا دوما! لكنك عدت من العزلة ببياض ممتد في هذا الكون القاتم، لتكرر سيرة الحبر الذي تقرأه العيون. 

كنت هنا معنا في الدوحة تقحمنا داخل دومة ” صالح بن عامر*” بحروبها الطويلة، نرى خيولك التي تقطع الحدود متسللة، تحاول ربح حق العيش في أزمنة العتمة والضيق والموت، كنت هنا تقف بين حدين؛ وجودك الكامل ووجدوك الآخر الذي عشناه بين صفحات كتبك، محاولين التملص منها نحوك، بأنانية مفرطة نحيد عبء ما عصف بك حين غامرت مثل أجدادك صوب البحر والغياب لكي لا ننكئ الجراح في غفلة منا.

أنت يا حارس الظلال لا تبوح بشيء لكنه صوتك يرفض الانصياع، في كل أسئلتك جمرة تخرج من رماد الأيام السالفة، وحكاياتك إعادة للأوجاع وظلمات تطل من “شرفات بحر الشمال*” تحارب عبء الذاكرة لتنسى؛ لكنها مثلما تقول ” نحن لا ننسى عندما نريد، لكننا ننسى عندما تشتهي الذاكرة” هي هذه التي تخالفك تمنح للأحاديث بيننا شرفاتها، تفتح عالمها محاولة إعادة ترميم ما تهدم من أطلال مدنك كي لا تُنسى.

أتذكر “ماريانة*” تلك الغجرية التي ودعت البشير حين قالت ” الغد سيكون يوماً آخر” كانت تنفي عنها الحنين بالغد الآتي، كل شؤوننا ركناها عند ظلال وجودك يومها، وللغد إعادة الأمس برفقتك، هي متوالية حسابية تنتهي متوهجة لتسمى الذاكرة.

لم أغفل عن ذكر وطنك الجزائر الذي بسبب بات أكبر في وجداننا، حين أحببته وعرفته من كتبت، تعلقتُ  بمسلكك فيه وهبتنا أيها الحارس وطنا آخر يطل علينا عبرك، تكبر صورته مع كل كلمة تحكى عنه، أتصوره كما أشتهي وأتلمس أطراف عباءته، أستنشق روائح جباله وهضابه البهية، لأنك الذي زرعت فينا حبه -كله-  بالخيول الجامحة فوق ترابه،  ومقامات الأولياء والمساجد والكنائس.

**************

كان يوما من أيام أسفارك تألق معنا، كشعلة كانت تطوف السماء وحطت في مشعلنا ليلتها، حملت أيها الحارس أسرارك ومتاهات روحك التي تدعي أنها لم يعيها الترحال، وخطوت تبحث عن خلجات المدينة وأناسها، عنك في وسطها وعن الموسومين بحبها، مثلنا أنا وصديقي “جابر عتيق” أو صديقتنا الغائبة عن إكمال “أصابع لوليتا” ووجودها، مضت الساعات القليلة التي ربحتُ فيها وجودك، سيجارة واحدة لم تكن عادية حين يسجيها الليل والرفاق وأشباح المدينة في يدك، ولا السؤال الخارج من ليالي شهرزاد؛ طرحته قبل أن تغيب صورتك ويمتد ظلك يتبعها! سأترك سؤالك معلقا دون جواب كامل، في حضورك الكامل.

غادرت ليلتها وبقيت ظلالك تتراقص كلما مرت صور ذلك اليوم العابر، تعبث بها نسمة هواء سامرة ليلتها معك.

الدوحة 2022.

*الإشارات هي أعمال الكاتب.

ردان على “يوم من أسفار حارس الظلال”

  1. قام بإعادة تدوين هذه على jaber atiq وأضاف التعليق:
    سهرة جميلة مع المبدع واسيني الأعرج لم تغب عن ذاكرة احمد العلوي فنسجها قطعة موسيقية بحروفه الراقصة

    إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s


%d مدونون معجبون بهذه: